Contributions

الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، مؤسسة رأسمالية عالمية فاسدة

الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، مؤسسة رأسمالية عالمية فاسدة *

تقديم:

من المؤسف أن تتحول رياضة كرة القدم من ممارسة رياضية تساهم في صقل الجسم ليصبح سليما، ويغذي عقلا سليما، إلى « أفيون »، يستهلكه شبابنا أمام شاشات التلفزيون، ويستهلكون معه عشرات الومضات الإشهارية، لمنتوجات أجنبية رديئة وباهضة الثمن، ويختصم ملايين العرب بخصوص فرق أوروبية تمارس التطبيع وتكريس الإستعمار الإستيطاني الإقتلاعي الصهيوني (« ريال مدريد » و »برشلونة » على سبيل المثال) ويشترون ملايين القمصان بأسعار خيالية، كما يضحي عدد هام من الشباب العامل أو العاطل عن العمل بالغالي والنفيس، لشراء تذكرة دخول إلى ملاعب القاهرة أو الرباط أو أي عاصمة عربية (وغير عربية كما في البرازيل)، وتحولت المباريات أحيانا إلى مجازر، في عدد من البلدان العربية (وغير العربية) سواء في معارك بعد المباراة أو أثناءها، أو سقوط المدارج والتدافع الذي يؤدي إلى قتل وجرح العشرات، وتحولت الرياضية وكرة القدم بشكل خاص إلى وسيلة للترويح والتسلية، بشكل مبتذل وسوقي (مثل الفن الهابط تماما) بهدف إبعاد الشباب عن قضاياهم اليومية الحياتية (شغل وحرية وكرامة وطنية) وعن الهموم القومية (قضايا الإحتلال والهيمنة الإمبريالية والديون) بهدف إدامة حكم الطبقة الخاضعة إلى سيطرة القوى الإمبريالية والشركات متعددة الجنسية، ونشر الشوفينية والعداء ضد الجار أو المنافس، إلى حد القطيعة بين بلدين عربيين، بسبب نتيجة مباراة كرة قدم (الجزائر ومصر) أو شن حرب بين دولتين جارتين، مثل سلفادور وهندوراس (دامت الحرب شهرين كاملين، لكن الأسباب الحقيقية لا تتعلق بالرياضة)، وبث أوهام « إمكانية جمع الثروة دون جهد يذكر »، وبالإعتماد على « الموهبة » فقط (كما في ميدان الغناء)، والترويج لإمكانية العيش في بذخ والإسراف في الإنفاق على السيارة والمنزل الفخم بفضل كرة القدم، ولعبت كرة القدم دورا فعالا في إخفاء العنصرية ودكتاتورية الجيش، خلال عقد الستينات وجزء من السبعينات، والفوارق الطبقية المجحفة في عدد من البلدان، أهمها البرازيل، قبل أن تسقط هذه الأسطورة في البرازيل سنة 2014، عندما تظاهر المواطنون ضد ارتفاع الأسعار وضد تصفية القطاع العام والإنفاق الضخم على تنظيم تظاهرات رياضية مثل كأس العالم، وإهمال القضايا الحياتية للمواطنين (نقل وصحة وتعليم…)

في كواليس لعبة كرة القدم، تجري مضاربات ومنافسات قوامها مئات ملايين الدولارات، لشراء اللاعبين خصوصا من البلدان الفقيرة، ما يعد نسخة حديثة لتجارة الرقيق، وتحولت النوادي الرياضية إلى شركات تجارية أو مؤسسات يمتلكها مستثمرون، تستخدم النشاط الرياضي لجني أرباح هائلة، دون إضافة قيمة إلى « المادة الخام »، وأصبحت النوادي الغنية هي الوحيدة القادرة على نيل البطولات، وبالتالي بيع أقصى عدد من القمصان ومن « المشتقات »، وينطبق هذا الأمر على النوادي كما على الفرق الوطنية، من ذلك أن القارة الأوروبية تهيمن على الإتحاد الدولي لكرة القدم، مع امتيازات قليلة لأمريكا الجنوبية

أدى هذا التطور في مجال الرياضة (تبعا للنهج الإقتصادي الليبرالي السائد في باقي القطاعات) إلى هيمنة الشركات الكبرى المعولمة (مثل أديداس وكوكاكولا وماكدونالدز) وتضخم الإستثمارات والأرباح، وانتشار الفساد، تبعا لضخامة الرهانات المالية والإقتصادية، وتداولت الصحف أخبارا عن قضايا فساد داخل الإتحاد الدولي لكرة القدم (وكذلك اللجنة الأولمبية الدولية) منذ عدة سنوات، إلى ان انفجرت قضية الفساد الحالية، في ظروف اختارتها الولايات المتحدة لأسباب لا علاقة لها بالرياضة بشكل عام وبكرة القدم على الأخص، بل هي تصفية لحسابات « غير رياضية »، لأن كرة القدم رياضة شبه مجهولة في أمريكا الشمالية، وما تنظيم كأس العالم لكرة القدم في أمريكا سوى أحد نتائج هذا الفساد… أعلن جوزيف (شهر سيب) بلاتر، رئيس الفيفا استقالته من منصبه بعد أربعة أيام فقط من انتخابه لفترة ولاية خامسة، ويبدو انه اتخذ القرار بعد اكتشافه انه أيضا يواجه تحقيقات تجريها السلطات الامريكية، وبعد استقالته، بدأت « سلطات إنفاذ القانون » الأمريكية تنشر أخبارا مفادها « إن التحقيقات التي يجريها مكتب التحقيقات الاتحادي (أف بي أي) تشمل عملية التنافس على استضافة النهائيات العالمية المقبلة في 2018 و2022 » ما جعل بعض الصحف تشيع « إنه من الممكن سحب حق تنظيم نهائيات كأسي العالم 2018 و2022 من روسيا وقطر » في حال ثبوت الرشوة وشراء الأصوات خلال عملية التنافس على الفوز بالاستضافة، وهي تهم لم تكن ضمن ما أعلنه الادعاء الأمريكي ضد مسؤولي الفيفا في بداية الأمر، ما يعيد إلى الأذهان حملة مقاطعة الألعاب الأولمبية في موسكو سنة 1980 وعودة الحرب « الباردة » في نسختها « الفاترة » الحالية إلى السطح، لفرض الإرادة الأمريكية في كل المجالات (بما فيها الرياضة) وتجنيد القوة الناعمة (الشرطة والقضاء والدعاية والإعلام) والقوة الخشنة (الجيش والأسلحة والعملاء وداعش والنصرة والقاعدة…) لبسط الهيمنة الأمريكية على العالم

نبذة عن تطور رياضة كرة القدم:

أقيمت أول دورة لكأس العالم لكرة القدم (المونديال) سنة 1930 في « الأرغواي » التي أحرزت اللقب، حين كان جميع الرياضيين هواة، وكان الفرنسي « جول ريميه » (1874 – 1956) صاحب فكرة إقامة كأس العالم، وأسس مع شقيقه « موديست ريميه » وبعض الأصدقاء سنة 1897 نادي « ريد ستار » (النجم الأحمر) الذي لا يزال موجودا، ولكنه نادي فقير، لأنه كان نادي الطبقة العاملة والأحياء الشعبية في باريس وضواحيها، وانتخب « جول ريميه » رئيساً للاتحاد الفرنسي لكرة القدم من 1919 حتى 1949، وأصبح سنة 1921 رئيسا للإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) الذي تأسس سنة 1904، ما مكنه من العمل على تنظيم « كأس العالم » لكرة القدم، وتخلى عن منصبه في « فيفا » سنة 1954 ومنذ ذلك الحين، تناوب أربعة رؤساء على المنصب، وتغير الوضع في شتى المجالات، منها الميدان الرياضي بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص، من لعبة جماهيرية، إلى تجارة، مع الرئيس البرازيلي لفيفا « جواو هافيلانغ » سنة 1974، وخصوصا بعد وصول عضده الأيمن، من بعده، السويسري « جوزيف بلاتر » (المعروف ب »سيب بلاتر ») إلى الرئاسة سنة 1998 (بمساعدة ابنته التي قادت الحملة الإشهارية لأبيها ضد جو هافلانغ)، وبمساندة قوية من شركة « أديداس » التي كانت تشغله برتبة مدير، ولا زالت « أديداس » متعاقدة مع ابن أخيه « فليب بلاتر » الذي يدير شركة إعلامية، تحتكر بيع تذاكر مباريات الإتحاد الدولي لكرة القدم، وبذلك عادت الرئاسة إلى الأوروبيين، بضغط قوي من الصحف والإتحادات الأوروبية ذات النفوذ الكبير داخل « فيفا »، التي أصبحت تمثل حوالي 300 مليون لاعب كرة قدم في مختلف القارات بواسطة الإتحادات الإقليمية، ولا زالت شركة « أديداس » متعاقدة مع « فيفا » حتى سنة 2030 لاستخدام الكرات التي تصنعها، في مباريات كأس العالم، وتبيع منها ملايين في العالم سنويا

لاحقت الفضائح « فيفا » في الأيام الأخيرة لرئيسه السابق البرازيلي « جواو هافيلانج »، الذي سلم الراية إلى نائبه بلاتر عام 1998 وبدأت سلسلة الإتهامات من وسائل الإعلام الإنغليزية ضد بلاتر و »فيفا » بالفساد منذ التسعينات، وزادت حدة منذ نشر كتاب « عالم فيفا السري » للصحافي الإنغليزي « اندرو ينينز »

المال قوام الأعمال:

اتهمت وزارة القضاء الأمريكية عضوًا نافذًا بالاتحاد الدولي لكرة القدم، بتلقي رشاوى تهّم استضافة بعض الدول لنهائيات كأس العالم (منذ 1998)، وتمرير صفقات تتعلّق بالتسويق وحقوق البث التلفزيوني للمباريات، والاحتيال والابتزاز وغسل الأموال، وقد قام الأمن السويسري باعتقال ستة أعضاء من المتهمين، تمهيدًا لنقلهم إلى الولايات المتحدة (انظر الفقرة بعنوان « أسلوب الغواصة الأمريكي في التحقيقات »)، وللمال دور هام في تسيير وإدارة الإتحاد الدولي لكرة القدم، الذي أصبح شركة كبرى « معولمة »، وفي شراء الأصوات (والصمت أيضا)، ولا بد من تدبير هذا المال، للحفاظ على « السلم الكروي أو الرياضي » (مثل السلم الإجتماعي)

… حقق الاتحاد الدولي لكرة القدم ما قيمته 5,7 مليار دولار في أربع سنوات، بين مونديال جنوب افريقيا سنة 2010 ومونديال البرازيل سنة 2014، وحققت سنة 2014 وحدها عائدات بقيمة ملياري دولار، وجلب تنظيم بطولة كأس العالم 2014 للاتحاد أرباحا بقيمة 2,6 مليار دولار، و2,4 مليار دولار من حقوق البث التلفزيوني و527 مليون دولارا من بيع 11 مليون تذكرة دخول الملاعب خلال مونديال البرازيل 2014، في حين أنفق الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) مقدار 88 مليون دولار فقط على الرواتب خلال العام 2014 حيث حصل أبرز 13 مسؤولا بالاتحاد ما قيمته 40 مليون دولار، دون الكشف عن رواتب الرئيس والأعضاء البارزين، التي تعادل أجور الرؤساء والمديرين التنفيذيين في كبرى الشركات السويسرية والعالمية… من جهة أخرى تجدر الإشارة إلى ارتفاع مديونية اليونان بعد تنظيم الألعاب الأولمبية 2004 وجنوب افريقيا بعد كاس العالم 2010، وقد تكون نتائج تنظيم البرازيل لكاس العالم 2014 نتائج وخيمة لم تظهر كل تفاصيلها بعد

تستثمر « الفيفا » معظم عائداتها وتحتفظ بجزء منها لتكوين احتياطي نقدي، لتأمين تغطية أي إلغاء محتمل لكأس العالم في اللحظة الأخيرة، وتضخمت قيمة هذا الإحتياطي من 350 مليون دولار سنة 2005 إلى أكثر من 1,5 مليار دولار سنة 2014، وطال الفساد حوالي 10% من قيمة هذه الأموال (151 مليون دولارا) خلال عقدين بحسب ما ورد في لائحة الإتهام الأمريكية

هيمنة التجار والشركات على الرياضة:

لم يكن لجوزيف بلاتر تاريخ يذكر في رياضة كرة القدم، وجاء إلى « الفيفا » من خلال عمله كمدير للعلاقات العامة والتسويق في شركة « لونجين » السويسرية لصناعة الساعات، وكانت هذه الشركة راعية أساسية للتوقيت في اولمبياد ميونيخ في (المانيا) عام 1972 (سنة المجزرة التي ارتكبتها المخابرات الألمانية والصهيونية ضد الفلسطينيين الذين احتجزوا الفريق الرياضي الصهيوني)، ودفعته انتهازيته وطموحه إلى بذل مجهودات ضخمة للتقرب من ذوي النفوذ، منهم البرازيلي « جواو هافلانغ » الذي انتخب سنة 1974 رئيسا للإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وضم « بلاتر » إلى فريقه سنة 1975، وأوكل إليه منصب المدير الفني سنة 1977، قبل تعيينه أميناً عاماً سنة 1981 خلفاً للألماني « هلموت كايزر »، وكان قد انتقل إلى العمل في شركة « أديداس » التي فرضته على رأس الفيفا سنة 1998، بمساندة الإتحادات الأوروبية (عظيمة النفوذ) والإعلام الأوروبي، وتجدد انتخابه بسهولة سنوات 2002 و2007 و2011 -حيث وعد بعدم الترشح لولاية خامسة- لكن انتخابات 2015 جاءت في ظرف مختلف، بإرادة الولايات المتحدة… حصل « بلاتر » على رتبة عقيد في الجيش السويسري حيث يخضع جميع المواطنين إلى تدريبات عسكرية دورية، وصقلت المؤسسة العسكرية مواهبه التنظيمية والإدارية، فأنشأ من خلال « فيفا » شبكة اتصالات دائمة مرتكزة على تقنية المعرفة، مكنته من إطلاق حملات دعائية كثيرة الجعجعة وقليلة الطحين، مثل « دمج النساء في عملية صنع القرار » أو « تطوير التعاون بين فيفا والاتحادات القارية والاتحادات الوطنية والبطولات والاندية »، ولكنه كثف بالفعل « التعاون » مع الشركات الراعية والشركاء الاقتصاديين والسياسيين للإتحاد الدولي لكرة القدم، خصوصا بعد أن ازدادت شعبية هذه الرياضة، مع انتشار القنوات التلفزية الفضائية وأصبحت مصدرا للربح الوفير، وراجت الدعاية المضللة بإمكانية الإرتقاء في السلم الإجتماعي بواسطة كرة القدم، والدليل أن بعض النجوم الذين ترعرعوا في أحياء فقيرة (حوالي عشرة) أصبحوا يكسبون ملايين الدولارات، بعد تعاقدهم مع فرق أوروبية شهيرة، وبذلك يتحول شباب الأحياء الفقيرة من المطالبة بتوزيع عادل للثروات إلى الحلم بالنجومية والثراء بواسطة كرة القدم، ويضحون بالغالي والنفيس من أجل اقتناء مظاهر الولاء إلى فريقهم المفضل… (راجع دور شركة « أديداس » في فقرة « نبذة عن تطور رياضة كرة القدم »)

من مظاهر الفساد:

اشتهر رئيس الفيفا بتصريحاته العنصرية ضد سكان أمريكا الجنوبية والبرتغال وافريقيا، وصرح ان العنصرية غير موجودة في ملاعب أوروبا (رغم عشرات الوثائق السمعية والبصرية) وإن وجدت يمكن حلها بمصافحة الأيادي، وصرح مرة أخرى ان التلاعب بنتائج المباريات شيء طبيعي في افريقيا، اما أن يحصل ذلك في إيطاليا، فهو امر غير معقول، وسبق أن قاطع دقيقة صمت عن رحيل مانديلا بعد 11 ثانية فقط، وفي ما يخصنا كعرب، أعلن « بلاتر » أنه شخصيا ضد طرد الكيان الصهيوني من الفيفا، رغم كل الخروقات الموثقة لميثاق الإتحاد، وفي سنة 2004 طلب سيب بلاتر من الرياضيات النساء « ارتداء ملابس ضيقة وقصيرة، والظهور بمظهر عصري وجميل لتحسين صورة الرياضة النسائية واجتذاب الرجال إلى الملاعب »… ومع ذلك فلم يكن مهددا بالهزيمة في انتخابات الفيفا، حيث انحصرت المنافسة يوم 29/05/2015 بين سيب بلاتر، والأمير علي بن الحسين (الأردن)، عضو اللجنة التنفيذية للفيفا الذي انسحب بعد الدور الأول، امام ضعف صفه (73 صوتا مقابل 133 لصالح بلاتر)، وتواترت الأنباء حول فساد الرئيس والشبهات والصفقات المالية والرشاوى مقابل أصوات ممثلي اتحادات الدول الفقيرة في الانتخابات، حيث تمنح « الفيفا » بواسطة الشركات الراعية بعض التجهيزات والأزياء الرياضية، وترعى بعض مدارس تدريب الأشبال، وقد برع رئيس الفيفا في توزيع التهم على بعض مساعديه مدعيا انه لا يمكنه مراقبة كل شيء وكل المسؤولين، واعتاد كذلك على إرشاء بعض الإتحادات التي تعطيه أصواتها مقابل بعض المكاسب، مثل الإتحاد الافريقي والإتحاد الاسيوي، وعرضت محطة (ESPN ) التلفزية الرياضية برنامجا خاصا مدته ساعة، عن ملفات الفساد التي طالت الفيفا، ورئيسها « سيب بلاتر » نفسه، واتهمه مسئول في الاتحاد الأفريقي لكرة القدم بشراء أصوات مقابل المال سنة 2002 وأعطى ممثلو 18 دولة افريقية أصواتهم إلى « بلاتر » مقابل رشاوى بمبلغ 100 ألف دولار لكل اتحاد، واضطر الرئيس السابق « جواو هافلانغ » إلى الإستقالة من منصب الرئيس الشرفي للفيفا بعد اتهامه بقبض عمولات ضخمة مقابل عقود البث التلفزيوني لكأس العالم 2002 كما اتهمت الصحف مسئولين في الإتحاد بقبول هدايا وساعات ثمينة من الاتحاد البرازيلي لكرة القدم، قدرت قيمة الواحدة منها بأكثر من ثمانية آلاف دولار…

ورد في وثيقة التأسيس (1904) « يهدف الإتحاد إلى نشر وتطوير رياضة كرة القدم والتركيز على تأثيرها الإيجابي على الصعيد الكوني، سياسيا وثقافيا وإنسانيا من أجل خير الإنسانية… »، ولكن الإتحاد تحول إلى مؤسسة ربحية متعددة الجنسية (151 مليون دولارا من الأرباح الصافية سنة 2014)، وللفيفا مصالح مشتركة مع الشركات الراعية لنشاطاتها، مثل « أديداس » و »نايك » و »كوكاكولا » وغيرها، وتكتنف الضبابية هذه الأنشطة الإقتصادية، ذات العوائد المالية المرتفعة، ولكن هذا النشاط الإقتصادي المربح يخفي جوانب أخرى غير ظاهرة للعموم، وبرزت على السطح بعض الفضائح منها:

خسائر »ماستر كارد » و »فيزا »، التي اتهم فيها « جيروم فالكه » مدير التسويق السابق في « فيفا »، وهو الأمين العام الحالي، بالكذب على شركتي « ماستر كارد » و »فيزا » الماليتين، ما أدى إلى خسارتهما أموالا من رعايتهما لنشاطات « فيفا »، وانتهت هذه القضية بترقية هذا المسؤول عن هذه الفضيحة، وتسديد « فيفا » 90 مليون دولارا تعويضا للشركتين، مقابل التنازل عن الدعوى القضائية

المتاجرة بالتذاكر في السوق الموازية: اتهم القضاء البريطاني الإتحاد الدولي لكرة القدم ببيع حوالي 36 ألف تذكرة لمشجعي الفريق الانغليزي الذين حضروا مباريات نهائيات كأس العالم في المانيا سنة 2006 بشكل غير قانوني (في السوق الموازية) من أجل جني الأرباح، ونشرت الصحف النرويجية أن 250 ألفاً من مشجعي كرة القدم الذين حضروا إلى كأس العالم 2006 قد حصلوا على تذاكر من سماسرة في السوق الموازية قبل انطلاق نهائيات كأس العالم في جنوب افريقيا 2010 بعد ان باعت وكالة بيع التذاكر التابعة للاتحاد الدولي لكرة القدم (المملوكة جزئياً من قبل شركة إعلامية يديرها فيليب بلاتر، ابن أخ سيب بلاتر رئيس الـ »فيفا »)، معلومات عنهم إلى سماسرة السوق الموازية، الذين اتصلوا ببعض من هؤلاء المشجعين وعرضوا عليهم شراء تذاكرهم قبل تداولها، بصورة غير مشروعة، منهم رئيس الوزراء السويدي السابق « انغمار كارلسون »

بيع الأصوات: تورط عدد هام من المسئولين في المكتب التنفيذي للإتحاد الدولي لكرة القدم في قضايا تربح منهم « جاك وارنر »، نائب رئيس الاتحاد سنة 2002 الذي وجهت إليه الاتهامات بالتربح الشخصي من خلال بيع تذاكر بطولة كأس العالم للناشئين (تحت 17 عاماً) التي استضافتها بلاده « ترينيداد وتوباغو » سنة 2002 بحسب شركة « إيرنست ويانج » لمراجعة الحسابات… وعوقب « رينالد تيماري » (تاهيتي) و »أموس أدامو » (النيجر) لأنهما عرضا بيع صوتيهما خلال التصويت على استضافة نهائيات كأس العالم 2018 و2022 وأوقف أربعة أعضاء آخرين في اللجنة التنفيذية، بشكل مؤقت، ووقع تغريم البعض الآخر بمبالغ تتراوح بين 6 و 12 ألف دولارا بسبب الإرتشاء، وكل هؤلاء المسئولين من بلدان صغيرة وفقيرة، ونفت « فيفا » مزاعم أخرى عن ارتشاء أعضاء من بلدان اوروبية منها اسبانيا والبرتغال وإيطاليا وثلاث دول أخرى (غنية) لم تذكر الصحف أسماءها، في حين وجهت تهم خطيرة إلى كل منافس ل »سيب بلاتر » في انتخابات الإتحاد مثل « محمد بن همام » من الإتحاد الآسيوي، و »جاك وارنر » من « كونكاف »، وسبق أن أعلن ممثل الصومال (دولة صغيرة ومحتلة ) حصوله (وعدد آخر من ممثلي الدول الصغيرة والفقيرة) على 100 ألف دولار من أجل التصويت لصالح « جوزيف بلاتر » في انتخابات 1998 في باريس، في حين حصل ممثلو دول كبرى على مبالغ تصل إلى مليون دولار…

من خفايا القضية:

نخر الفساد الاتحاد الدولي لكرة القدم، وتحول إلى رمز لأصحاب رؤوس الأموال والاستثمارات، منذ ما لا يقل عن عقدين، بدلا من أن يكون الممثل الحقيقي للعبة الأكثر شعبية في العالم، وأصبح الرئيس هو الرئيس التنفيذي، وهو نفسه مدير الحسابات ومدير العمليات ومدير شؤون الموظفين، والملفت للإنتباه هو توقيت تفجير ازمة الفساد في هذا الظرف، وقبل أيام قليلة من انتخابات المكتب التنفيذي الجديد، رغم مرور 24 عام على وجود الملف لدى مكتب التحقيقات الأمريكي (منذ 1991)، وتدعي الولايات المتحدة أن لا علاقة لهذا الملف بتصفية الحساب مع روسيا (بسبب سوريا واليمن وإيران…) أو بملف دورتي كأس العالم لكرة القدم لسنتي 2018 في روسيا و 2022 في قطر، فيما تؤكد مصادر قضائية سويسرية أن هاتين الدورتين محوريتان في القضية المرفوعة لديها، وأعلنت روسيا على لسان رئيسها ووزير خارجيتها ان أمريكا تريد فرض هيمنتها على منظمة عالمية أخرى (مثل فيفا) بعد بسط هيمنتها على مجمل المنظمات الدولية، رغم جهل الأمريكيين والسلطات بقواعد وأصول لعبة كرة القدم، وأعلنت روسيا ان « فيفا » تسدد فاتورة تأييدها توزيع إقامة كأس العالم على الدول خاصة النامية منها بصرف النظر عن حجم الدولة التي تستضيف الدورة، إذا توفرت الشروط منها البنية التحتية والامن وغيرها من المعاير المطلوبة، بدل احتكار إقامة اللعبة في مدن الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، ولكن السلطات الأمريكية تستند إلى مرور أموال الرشوة والفساد بمصارف أمريكية، وأن الكثير من عمليات الفساد المشار إليها إما انها جرت على الأراضي الأمريكية أو أن المنافع الناتجة عنها مرت بالنظام المصرفي الأمريكي ما يخولها القيام بالبحث والتفتيش والإعتقال، في بلد مستقل (سويسرا)، واستغل الكيان الصهيوني قضية الفساد للإلتفاف على حملة عالمية تهدف إلى طرد اتحاد المستوطنين الصهاينة لكرة القدم من الفيفا لأنه يضم ستة فرق من المستوطنات (أي الأراضي المحتلة سنة 1967) ولأن سلطات الإحتلال تعرقل تنقل ونشاط الرياضيين الفلسطينيين، وتمنع وصول التجهيزات الرياضية، واجتمع عدد من المحتجين أمام مقر المؤتمر، وتمكنت امرأتان من الدخول إلى القاعة ورفعتا علم فلسطين… لكن سلطة الحكم الذاتي الإداري تراجعت آخر الأمر وسحبت مشروع قرار طرد الصهاينة، وكان أعضاء في الكونغرس الأمريكي قد أنذروا « بوقف الدعم الأميركي للفيفا إذا ما عُلِّقت عضوية إسرائيل وسنعتبر ذلك تمييزا عنصريا ومعاديا للسامية »، في حين يعتبر الإتحاد الدولي لكرة القدم من المنظمات المستقلة ماليا، إذ تكسب المليارات من تنظيم البطولات العالمية ومن حقوق البث التلفزيوني والإشهار والرعاية الخ…

أسلوب « الغواصة » الأمريكي في التحقيقات:

اشتهر « تشاك بليزر »، بلقب « السيد 10% » وهو المخبر الذي زود مكتب التحقيقات الفدرالي الأمريكي بملفات ووثائق الفساد والرشوة في الفيفا، حيث كان أحد أكبر الأسماء في عالم كرة القدم في الولايات المتحدة، يبلغ من العمر 70 عاما، سافر حول العالم وتعود على الحياة المرفهة في أفضل الفنادق والمطاعم، والتنقل بالطائرات الخاصة، مستخدما حسابات مالية في مصارف أجنبية، وشغل « بليزر » منصب العضو في اللجنة التنفيذية للفيفا وكان في وقت ما الرجل الثاني في اتحاد « الكونكاكاف » (امريكا والكاريبي)، وقام بتسجيل محادثات بشكل سري بين شخصيات بارزة في الاتحاد يتحدثون عن الرشوة والابتزاز المالي، وقدمها لمكتب التحقيقات الفدرالي، مقابل الإفلات من السجن بسبب عدم تسديد الضرائب لسنوات طويلة، رغم جمعه أكثر من 21 مليون دولار (معلنة) أودعها في مصارف أجنبية، ويمتلك عقارات في نيويورك وميامي والباهاماس، وكان قد قدم تقارير للفيفا عن قضايا الرشوة والفساد المالي، لكنه هو نفسه كان يلقب برجل الـ10% بحسب مجلة « بازفييد »، بينما كتبت صحيفة « دايلي نيوز » أن « بليزر » انفق ستة آلاف دولار على « رفاهية » قططه، وسدد اتحاد « الكونكاكاف » بين سنتي 1996 و2011 أكثر من 800 ألف دولار لاستئجار شقق سكنية له، واعترف سنة 2013 (بحسب صحيفة « نيويورك تايمز ») بقضايا ابتزاز مالي واحتيال وغسيل أموال والتهرب الضريبي وعدم الإبلاغ عن حسابات مصرفية له خارج أمريكا، وحصل على وعد الإفلات من العقاب (إذ يعاني من سرطان القولون) مقابل الوشاية بمسئولي فيفا بعد أن كان أحد أركان « فيفا » ونظامها المالي، شريطة عدم الإدلاء بتصريحات، مخافة التعرض لعقوبة بعشر سنوات سجن، وبحسب صحيفة « نيويورك دايلي نيوز »، أصبح « بليزر » عميلا ل »اف بي أي » التي زرعت ميكروفونا صغيرا في علاقة مفاتيحه للإيقاع بزملائه، وتسجيل سلسلة من فضائح كبار مسئولي اللعبة، وإجرى اتصالات بمسئولين رياضيين من روسيا والمجر واستراليا والولايات المتحدة، فاجتمع بهم وسجل ما دار في الإجتماعات (دون علمهم)، بحسب مشيئة المحققين، الذين صادروا مبلغ 1,9 مليون دولار من حساباته ويجب ان يسدد مبلغا ثانيا بعد الحكم عليه، مع منعه من ممارسة اي نشاط يتعلق بالرياضة، بعد اضطراره للإستقالة سنة 2013، إثر اتهام الفيفا له بارتكاب مخالفات مالية

الفساد المعمم على أوسع نطاق:

لم يكن الفساد نتيجة خطأ مسئول أو اثنين، ولم يكن صدفة أو « زلة قدم »، بل كان (ولا زال) راسخا في أسس الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، وطال كل درجات المسؤولية، وكلما ارتفعت الدرجة كلما ارتفع مبلغ الرشوة والأرباح ومستوى العيش الخ، وتلقى 14 مسؤول (منهم مقربون من سيب بلاتر) أموالا من شركات الإعلام والإعلانات الرياضية إعلامية بنحو 151 مليون دولار، وتتعلق بالتسويق والرعاية لدورات رياضية، وكانت « الفيفا » تحقق داخليا في قضايا الفساد، وتفندها، قبل أن ينتقل التحقيق إلى مكتب التحقيق الفدرالي الأمريكي والسلطات الأمنية في سويسرا، وسبق أن نشرت وسائل الإعلام العالمية تحقيقات عن رشى بملايين الدولارات لفائدة الرئيس السابق البرازيلي « جواو هافلانج » (معلم « بلاتر ») أودعت في الحسابات المصرفية لهافيلانج وقريبه رئيس الاتحاد البرازيلي السابق لكرة القدم « ريكاردو تيكسيرا »، وارتبط اسم « بلاتر » الذي كان حينها السكرتير الأول لـ »فيفا » بمجموعة من الصفقات المشبوهة للرعاية مع شركات عالمية مقابل أموال دفعت سراً لبعض المسؤولين، ومنذ 1998 تنشر الصحف العالمية (خصوصا البريطانية) تحقيقات عن شراء الأصوات في كل دورة، وعن صفقات الرعاية المشبوهة في كل تظاهرة تشرف عليها « فيفا »، منها حصول « جاك وارنر »، ابرز أصدقاء بلاتر، والذي أعلن تقاعده في 2011، على ملايين الدولارات سنة 2006 مقابل التفويت في صفقات رعاية وإعلانات، وكعادة الاتحاد الدولي فتح تحقيق أكد تورط ابنه فقط، دون المس بوارنر، مخافة جر بلاتر، إلا أن وزارة القضاء الامريكية وجدت أدلة جديدة تورط « جاك وارنر »، فأعلنت ضمه إلى القائمة، وقد لا يطول الأمر قبل جر « بلاتر » أيضاً… من جانب آخر حاولت الفيفا سنة 1999 منع صدور كتاب بعنوان « كيف زوروا الإنتخابات » من تأليف « دفيد بالوف » (صحافي بريطاني)، الذي وثق حصول 20 عضو من « فيفا » على رشى بقيمة مليون دولار من أجل التصويت لصالح « بلاتر »، كما أكد الرئيس السابق للإتحاد الأوروبي لكرة القدم لفترة 17 سنة « لينارت يوهانسون » (منافس « سيب بلاتر » في انتخابات رئاسة الاتحاد الدولي (فيفا) عام 1998) للتلفزيون السويدي، توزيع مضاريف تحتوي أموالا على وفود صوتت لفائدة منافسه « بلاتر »… بعد سنوات، صدر كتاب آخر بعنوان « البطاقة الحمراء… الخفايا المثيرة لفيفا » (تأليف الصحافي البريطاني « اندرو جيننغز ») يتناول رشى بقيمة 1,2 مليون دولار، أودعتتها شركة بيع المنتجات الرياضية « انترناشيونال سبورت ليزيور » المعروفة اختصارا باسم « أي إس إل » (وهي شركة تمتلكها « أديداس » التي شغلت بلتر سابقا ودعمت انتخابه على رأس فيفا) وشريكتها الألمانية « كيرتش » في حساب للـ »فيفا » سنة 1998 (وهما مختصتان في مجال الإعلام)، مقابل الحصول على حق بث مباريات مونديال عام 2002 في كوريا واليابان و2006 في ألمانيا، وحاولت « فيفا » منع نشر الكتاب في سويسرا التي تحتضن مقرها، لأن الكتاب يوحي أن مسؤولي اللإتحاد قد اختلسوا مبلغ 80 مليون يورو دفعتها شركة (أي إس إل) للاتحاد الدولي مقابل حصول شركة (غلوبو) البرازيلية على حقوق بث مونديال 2002 و2006 ويتهم « بلاتر » شخصيا باختلاس أموال…

موقف الشركات الراعية؟ أعلنت « طيران الإمارات » وشركة « سوني » اللتان كانتا من الراعين الرئيسيين للفيفا أنهما لم تقوما بتجديد عقد الرعاية للاتحاد، وذلك في وقت سابق من نهاية العام 2014، فيما لم تعلن كل من شركة « فيزا » للبطاقات الائتمانية وشركة « هيونداي » للسيارات أي موقف رسمي، وأعلنت شركة « ماكدونالدز » (راعية غير رئيسية) إنها تتعامل بكل جدية مع قضايا الفساد، وانها على تواصل مع « فيفا » حول هذا الموضوع، بينما أكدت شركة « بدوايسر » أنها « تراقب تطور الأحداث في هذه القضية عن قرب »، وانتظرت شركات أديداس للمعدات الرياضية أو كوكا كولا للمشروبات الغازية أو شركة غاز بروم النفطية الروسية آخر لحظة قبل إعلان استمرار تعاونها مع فيفا ودعمها رغم الإتهامات بالفساد والرشوة، وبشكل عام فإن هذه الشركات هي التي تنتج الفساد وترعاه في مختلف أنحاء العالم، ولا يتوقع أن تتخلى عن الإرباح الوفيرة لأسباب « أخلاقية »، مهما كانت درجة انتشار الفساد والرشوة، لأن رأس المال لا يعترف بأي قيمة غير الربح، وما دامت الرياضة تجلب الربح، سيبقى رأس المال والشركات متعددة الجنسية مرافقة لها في الملاعب وخارجها

رد الفعل الروسي: اتهم الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين الولايات المتحدة بالضغط على « فيفا » لحرمان روسيا من حق تنظيم كأس العالم أو على الأقل تكدير مناخ هذا الحدث الرياضي، بينما بدأت في سويسرا عمليات استجواب لعشرة أشخاص، بينهم وزير روسي، وبذلك انتقل الخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا حول سوريا وأوكرانيا وإيران إلى ساحة كرة القدم، وأشارت وسائل الإعلام الروسية إلى « مؤامرة أمريكية تستهدف تنظيم كأس العالم 2018 في روسيا »، وأدانت وزارة الخارجية الروسية تطبيق أمريكا لقوانينها خارج حدودها، وتوسيع صلاحيات القضاء الأمريكي خارج أراضيه ضد متهمين غير أمريكيين، وشبه الرئيس الروسي أسلوب واشنطن في التعامل مع أعضاء « فيفا » بطريقتها في ملاحقة موظف الاستخبارات الأمريكية « إدوارد سنودن » ورئيس موقع ويكليكس « جوليان أسانج »

أزمة الفيفا من أزمة الإقتصاد المعولم

:

تهيمن الشركات متعددة الجنسية على الإتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) والإتحادات والرياضات الأخرى، وذكرنا في موضع آخر ان شركة « أديداس » فرضت « جوزيف بلاتر » على رأس الفيفا، ولها عقد مع « فيفا » لصنع كرات كأس العالم، حتى سنة 2030، وتملك 80% من نادي « بايرن ميونيخ » الألماني، وتسمى هذه الشركات « راعية » لتظاهرات « فيفا »، وأصبح النشاط الرياضي، وبالخصوص كرة القدم، قطاعا استثماريا، تجني منه الشركات الكبرى أرباحا هامة، إضافة إلى أموال الرهنات « المرخصة » والتي تقدر مداخيلها بنحو 300 مليار دولار سنويا، فيما تقدر قيمة الرهانات « غير المرخصة » بنحو 100 مليار دولار، وطفت بعض قضايا الفضائح حول الفساد الذي يلف هذه الرهانات، والتلاعب بنتائج المباريات، بمشاركة لاعبين وحكام وإداريين، في إيطاليا وتركيا وبعض بلدان آسيا، وتمسك الشركات « الراعية » بخيوط الفساد، دون أن تظهر للعيان، بخصوص التلاعب بنتائج المباريات أو صفقات شراء اللاعبين أو الإشهار والبث التلفزيوني، ومن هذه الشركات « أديداس » و »نايك » (تجهيزات رياضية) و »كوكاكولا » (غذاء ومشروبات) و »سوني » (تقنية واتصالات وإعلامية) و »هيونداي » (سيارات) و »فيزا » (مالية) و »طيران الإمارات » (نقل جوي)، وهي الشركات التي تملأ إعلاناتها ملاعب كرة القدم، حيث تدور المباريات التي تبثها القنوات التلفزية بالأقمار الإصطناعية في كافة أرجاء العالم، فتدخل الدعاية لهذه المنتوجات إلى الديار في كافة أرجاء العالم، ما يجعل من رياضة كرة القدم مجرد بضاعة أو وسيلة لجني أرباح طائلة ومن اللاعبين أدوات تشترى لتنتج ولتحقق مصالح لا علاقة لها بالرياضة، وكلما كانت المصالح والرهانات كبيرة كلما انتشر العنف داخل الملاعب وفي المدارج وخارجها، خصوصا بعد انتشار العنصرية في ملاعب أوروبا، ومنها إيطاليا عل سبيل المثال (روما وميلانو بالخصوص) الذي تزامن مع صعود اليمين الجديد بزعامة « برلسكوني » و »رابطة الشمال »…

تمثل الرياضة أرضية صالحة لنشر القيم الرأسمالية مثل التنافسية وخضوع المغلوب إلى الغالب دون احتجاج أو تمرد، ثم تطورت لتصبح بعض النوادي شركات معولمة، لها أنصار في أصقاع الأرض، وأصبحت النوادي ذاتها علامات تجارية، يمكنها بيع أزيائها للمحبين في أرجاء العالم، بأسعار مرتفعة، بمساعدة محطات التلفزيون التي ساعدت في انتشار كرة القدم وفي توسيع دائرة تأثير الإعلانات الإشهارية وأرباح الشركات متعددة الجنسية، وبذلك أصبحت أندية رياضية عديدة مدرجة في أسواق المال ويتداول المستثمرون والمضاربون أسهمها، وأصبحت رياضة كرة القدم (وكرة السلة في الولايات المتحدة) حلقة من منظومة رأسمالية تظم الشركات « الراعية » وشركات الإنتاج التلفزيوني وشركات الإشهار وشركات التجهيزات الرياضية، وصحف يومية مختصة تتصيد أخبار النوادي واللاعبين والمدربين، وكل هذه الشركات تشغل ملايين العاملين وتنفق رواتب ولها مكاتب وتجهيزات الخ ويغذي الجمهور مجموع هذه المصالح، جمهور محروم، في بعض البلدان، من التجمع والتعبير ورفع الشعارات، خارج الملاعب، وغالبا ما كانت شعارات الملاعب نابية وبذيئة، ومهينة للمنافس (الذي يصبح خصما أو عدوا)، وتستغل السلطات الحاكمة الرياضة (وكرة القدم بالخصوص) لتعميق العداء بين الشعوب أو لخلق انقسامات مصطنعة، حتى داخل المدينة الواحدة أحيانا، بين جماهير الأهلي والزمالك في القاهرة، على سبيل المثال …

أصبحت « فيفا » منذ ترأسها البرازيلي « جواو هافلانج » سنة 1974 شركة رأسمالية احتكارية معولمة، واشترت بناية جديدة استقرت بها سنة 1975 مقابل 250 مليون دولارا، ونقل على لسانه قوله « ستبيع لكم فيفا سلعة اسمها كرة القدم »، وحققت فيفا (بحسب بلاتر) نحو 1,5 مليار دولارا من حقوق البث التلفزيوني لمباريات كأس العالم 2006 و 1,750 مليار دولار خلال كأس العالم 2010، وبموازاة ذلك أصبحت الأندية شركات تبحث عن الربح وتنويع مصادر الدخل والربح، وكلما كان ترتيب النادي متقدما كلما ارتفعت مداخيله وأرباحه، ما يمكنه من شراء اللاعبين المقتدرين والحصول على الألقاب الوطنية والقارية (خصوصا في أوروبا) التي تدر أموالا كثيرة، وتلجأ النوادي الرياضية، مثل باقي الشركات الرأسمالية إلى الإقتراض من المصارف وإلى المستثمرين الأجانب لتوفير الأموال الضرورية للتوسع وشراء اللاعبين، وفقدت النوادي الأوروبية خصوصياتها المحلية مثل فريق مانشستر يونيتد الذي كان في بدايته فريق عمال السكة الحديدية وفريق « سانت اتيان » في فرنسا الذي كان فريق عمال « مانوفرانس »، والوطنية، حيث أصبحت النوادي المحترفة شركات مملوكة لرأسماليين محليين أو أجانب، لا يفقهون شيئا من كرة القدم أحيانا، وأصبحت هذه النوادي وسيلة لغسيل الأموال مثلما حصل في إيطاليا، ولذا فإن الفساد والرشوة لن يختفيا من عالم الرياضة، لأن الرياضة (بمفهومها الحالي) ليست معزولة عن منظومة رأس المال، بل هي جزء منه، ووجب أن يشملها الصراع والنضال ضد رأس المال، والعمل على تطوير الرياضة المدرسية ونشر ممارسة الرياضات الجماعية والفردية (بدل مشاهدتها على شاشة التلفزيون) بين النساء والرجال، في المدن والأرياف، بهدف تحسين صحة المواطنين والمواطنات، أو الترفيه، بعيدا عن قاعات الجلوس أمام شاشة التلفزيون، وعن حسابات الشركات متعددة الجنسية أو حسابات السلطات التي حولت وجهتها لصالحها

* يمكن اعتبار هذا المقال تتمة لمقال مطول سابق بعنوان « الرياضة بين الإستثمار المالي والإستغلال السياسي »، ربما يكون نشر سنة 2010 وهو بحث تاريخي في علاقة الرياضة بأنظمة الحكم وبالمال

الطاهر المعز 05/06/2015

Les commentaires sont clos.